التــــــاريخ وعلم الاجتمـــــاع
لتناول منهج فيبر يجب علينا أولاً توضيح أفكاره عن العلاقة بين التاريخ و علم الاجتماع. بالرغم من أن فيبر كان طالب قانون وأول وظيفة أكاديمية له كانت قانونية لكن الاهتمام بالتاريخ سيطر عليه منذ بداية حياته الأكاديمية. في الحقيقة كانت أطروحته للدكتوراه دراسات تاريخية عن القرون الوسطى وروما. لكن في سنواته الأخيرة بدأ يحدد أكثر وأكثر هويته كعالم اجتماع، ولقد ذكر أنه في عام 1909 عندما بدأ فيبر كتابة عمله الضخم " الاقتصاد و المجتمع " عند ذلك وهب نفسه بالكامل لعلم الاجتماع .
مع تحول فيبر أكثر وأكثر في اتجاه علم الاجتماع الجديد نسبياً – في ذلك الوقت – حاول توضيح علاقته بعلم التاريخ الأكثر رسوخاً . بالرغم من أن فيبر شعر أن كل مجال بحاجة للآخر، كانت رؤيته أن مهمة علم الاجتماع هى توفير الخدمات الضرورية للتاريخ. فقد ذكر أن علم الاجتماع يؤدى فقط مهمة متوسطة. شرح فيبر الفرق بين التاريخ وعلم الاجتماع " يحاول علم الاجتماع صياغة مفاهيم نموذجية ونظم مهمة للعمليات الميدانية. هذا يميزه عن التاريخ الذى يتوجه نحو التوضيح والتحليل السببي لأفعال الفرد، البنيات والشخصيات التى لها أهمية ثقافية "[1] . بالرغم من هذا التمييز الواضح جداً فإن فيبر استطاع الدمج بين الاثنين في أعماله. كان علم اجتماعه متجهاً نحو تطوير مفاهيم واضحة تمكنه من القيام بالتحليل السببي للظواهر التاريخية. يمكننا أن نعتبر فيبر عالم اجتماع تاريخي .
تفكير فيبر عن علم الاجتماع تأثر بعمق بسلسلة من المجادلات الفكرية التى كانت محتدمة في ألمانيا في ذلك الوقت. أهم تلك المجادلات كانت حول العلاقة بين التاريخ والعلم. قطبا الجدل أولئك الذين يرون أن التاريخ يتكون من قوانين عامة و أولئك الذين يحصرون التاريخ في أفعال وحوادث فردية. المفكر التعميمي مثلاً، يعمم حول الثورة الاجتماعية في حين أن المحلل الفردي يركز على الأحداث المحددة التي قادت إلى الثورة الأمريكية. رفض فيبر وجهتي النظر وطور طريقة متميزة لتناول علم الاجتماع التاريخي. رفض الفكرة التى تقول أن التاريخ يتكون من سلسلة من الكيانات المتفردة التى لا تقبل أي نوع من التعميم "لا يعتبر الأفراد، المجتمعات، والأحداث كيانات متفردة وإنما ممثلين لفئة عامة وكل منها يمكن فهمه فقط بالرجوع إلى تلك الفئة العامة ".[2] بالرغم من أن فيبر يبدو و كأنه يفضل شيئاً من التعميم، فقد رفض أفكار أولئك المؤرخين الذين حاولوا حصر التاريخ في حزمة بسيطة من القوانين. فقد انتقد مثلاً أحد المؤرخين – وليم روشر – الذى عنى بالبحث عن قوانين التطور التاريخي للبشر والذي يعتقد أن كل البشر قد مروا بمراحل شبيهة متعاقبة. وعبر فيبر عن رفضه قائلا ً "إن اختزال الحقيقة الواقعية إلى قوانين لا معنى له "[3]. هذه الرؤية تنعكس في العديد من الدراسات التاريخية المحددة. في دراسته عن الحضارات القديمة مثلاً، أقر فيبر "أن التاريخ الطويل والمتواصل لحضارات البحر الأبيض المتوسط الأوروبية لا يوضح دوائر مغلقة أو تطور خطى. أحياناً نجد أن ظاهرة من الحضارات القديمة اختفت تماماً ثم عادت للظهور في إطار جديد. "[4]
في رفضه لوجهات النظر المعارضة لعلماء التاريخ الألمان، أظهر فيبر طريقته الخاصة والتي تحتوى على دمج للتوجهين. اعتبر فيبر أن التاريخ ( علم الاجتماع التاريخي ) يهتم بالفردية والتعميم في آن واحد. تحقق هذا التوحيد من خلال تطوير واستخدام مفاهيم عامة ( والتي سنسميها لاحقاً " نماذج مثالية ") لدراسة أفراد، أحداث أو مجتمعات محددة. هذه المفاهيم العامة تستخدم " لتحديد وتعريف فردية كل تطور، المميزات التى تجعلنا نستنتج في طريقة مختلفة جداً إختلاف أحدهما من الآخر. بعد ذلك يمكن تحديد الأسباب التى قادت إلى الاختلاف. "[5] في القيام بمثل هذا التحليل السببي، رفض فيبر وبوعي فكرة البحث عن عامل سببي واحد خلال كل التاريخ. وبدلا ً عن ذلك استخدم مخزونه المفهومى لترتيب العوامل المختلفة المتضمنة في حاله تاريخية محدده حسب أهميتها السببية.
رؤى فيبر عن علم الاجتماع التاريخي تشكلت جزئياً بوفرة المعلومات التاريخية الحقلية وبالتزامه بدراسة تلك المعلومات. كان جيله من العلماء هو الأول الذي أتيحت له معلومات موثوقة عن الظاهرة التاريخية من أجزاء مختلفة من العالم. كان فيبر أكثر ميلاً لإغراق نفسه في هذه المعلومات التاريخية بدلا ً عن الأحلام عن تعميمات مجردة عن المجرى الأساسي للتاريخ. بالرغم من أن ذلك قاده إلى بعض الأفكار الهامة لكن خلق مشاكل حقيقية في فهم أعماله، أحياناً يدخل في تفاصيل تاريخية تقوده إلى النظر إلى الأسباب الأساسية للدراسة التاريخية إضافة إلى ذلك فان مدى دراساته التاريخية يشمل العديد جداً من المراحل والعديد جداً من المجتمعات مما لم يمكّنه الا من ماهو أكثر قليلاً من التعميمات غير المصقولة. بالرغم من ذلك فإن التزامه بالدراسة العلمية للظواهر الميدانية هو الذي جعله جذاباً جداً في تطور مجال علم الاجتماع في الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة، كان فيبر يعتقد أن التاريخ الاجتماعي مكون من عدد من الظواهر المستمرة. لدراسة هذه الظواهر يصبح من الضروري تطوير مفاهيم عديدة تعمم لفرض بعض النظام على اضطراب العالم الحقيقي. مهمة علم الاجتماع هى تطوير تلك المفاهيم و التى تستخدم بواسطة علم التاريخ في التحليل السببي للظواهر التاريخية المحددة. بهذه الطريقة حاول فيبر المزاوجة بين الخاص والعام في محاولة لتطوير علم يتعامل بعدل مع الطبيعة المعقدة للحياة الاجتماعية